فصل: تفسير الآيات (45- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (44):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتعجب المؤمنين من سوء حالِهم والتحذيرِ عن موالاتهم، والخطابُ لكل من يتأتّى منه الرؤيةُ من المؤمنين وتوجيهُه فيما بعدُ إلى الكل معاً للإيذان بكمال شهرةِ شناعةِ حالِهم وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجّبُ منها كلُّ مِنْ يراها والرؤيةُ بَصَريةٌ أي ألم تنظُرْ إليهم فإنهم أحِقّاءُ أن تشاهِدَهم وتتعجب من أحوالهم، وتجويزُ كونِها قلبيةً على أن {إلى} تتضمن معنى الانتهاءِ لما فعلوه يأباه مقامُ تشهيرِ شنائعِهم ونظمِها في سلك الأمورِ المشاهدةِ والمرادُ بهم أحبارُ اليهود.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في حَبْريْنِ من أحبار اليهودِ كانا يأتيان رأسَ المنافقين عبدَ اللَّه بنَ أُبيَ ورهطَه يُثبِّطانِهم عن الإسلام. وعنه رضي الله عنه أيضاً أنها نزلت في رُفاعةَ بنِ زيدٍ ومالكِ بنِ دخشم كانا إذا تكلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَوَيا لسانَهما وعاباه. والمرادُ بالكتاب هو التوراةُ وحملُه على جنس الكتابِ المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً تطويلٌ للمسافة، وبالذي أوتوه ما بُيِّن لهم فيها من الأحكام والعُلومِ التي من جملتها ما علِموه من نُعوت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحقِّيةِ الإسلامِ، والتعبيرُ عنه بالنصيب المنبىءِ عن كونه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتُها والمحافظةُ عليها للإيذان بكمال ركاكةِ آرائِهم حيث ضيّعوه تضييعاً، وتنوينُه تفخيميٌّ مؤيدٌ للتشنيع عليهم والتعجيبِ من حالهم، فالتعبيرُ عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلةِ على كمال شناعتِهم والإشعارِ بمكان ما طُويَ ذكرُه في المعاملة المَحْكيةِ عنهم من الهدى الذي هو أحدُ العِوَضَيْنِ، وكلمةُ {مِنْ} متعلقةٌ إما بأُوتوا أو بمحذوف وقع صفةً لنصيباً مبينةً لفخامته الإضافيةِ إثرَ بيانِ فخامتِه الذاتيةِ أي نصيباً كائناً من الكتاب وقوله تعالى: {يَشْتَرُونَ الضلالة} قيل: هو حالٌ مقدرةٌ من واوِ {أُوتُواْ} ولا ريب في أن اعتبارَ تقديرِ اشترائِهم المذكورِ في الإيتاء مما لا يليقُ بالمقام، وقيل: هو حالٌ من الموصولِ أي ألم تنظُرْ إليهم حال اشترائِهم، وأنت خبيرٌ بأنه خالٍ عن إفادة أن مادةَ التشنيعِ والتعجيبِ هو الاشتراءُ المذكورُ وما عطف عليه، والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ الكريمِ أنه استئنافٌ مبينٌ لمناط التشنيعِ ومدارِ التعجيبِ المفهومَيْن من صدر الكلامِ على وجه الإجمالِ والإبهامِ، مبنيٌّ على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى يُنظَرَ إليهم؟ فقيل: يأخذون الضلالةَ ويترُكون ما أُوتوه من الهداية، وإنما طُويَ ذكرُ المتروك لغاية ظهورِ الأمرِ لاسيما بعد الإشعارِ المذكورِ، والتعبيرُ عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارةٌ عن استبدال السلعةِ بالثمن أي أخذِها بدلاً منه أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراضِ عنه للإيذان بكمال رغبتِهم في الضلالة التي حقُّها أن يُعرَضَ عنها كلَّ الإعراضِ، وإعراضِهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون، وفيه من التسجيل على نهاية سخافةِ عقولِهم وغايةِ ركاكةِ آرائِهم ما لا يخفى حيث صُوِّرت حالُهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ، وليس المرادُ بالضلالة جنسَها الحاصلَ لهم من قبلُ حتى يُخِلَّ بمعنى الاشتراءِ المنبيءِ عن تأخُّرِها عنه بل هو فردُها الكاملُ وهو عنادُهم وتماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبيِّ عليه السلام وتيقنوا بحقِّية دينه وأنه هو النبيُّ العربيُّ المبشَّرُ به في التوراة، ولا ريب في أن هذه الرتبةَ لم تكن حاصلةً لهم قبل ذلك وقد مر في أوائل سورة البقرة.
{وَيُرِيدُونَ} عطفٌ على يشترون شريكٌ له في بيان محلِّ التشنيعِ والتعجبِ، وصيغةُ المضارعِ فيهما للدِلالة على الاستمرار التجدّدي، فإن تجددَ حُكمِ اشترائِهم المذكورِ وتكررَ العملِ بموجبه في قوة تجدّدِ نفسِه وتكرُّرِه، أي لا يكتفون بضلال أنفسِهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوتِه عليه السلام {أَن تَضِلُّواْ} أنتم أيضاً أيها المؤمنون {السبيل} المستقيمَ الموصِلَ إلى الحق.

.تفسير الآيات (45- 46):

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
{والله أَعْلَمُ} أي منكم {بِأَعْدَائِكُمْ} جميعاً ومن جملتهم هؤلاءِ وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلمُ بحالهم ومآلِ أمرِهم، والجملةُ معترضةٌ لتقرير إرادتِهم المذكورةِ {وكفى بالله وَلِيّاً} في جميع أمورِكم ومصالِحِكم {وكفى بالله نَصِيراً} في كل المواطنِ فثِقوا به واكتفُوا بولايته ونُصرتِه ولا تتولَّوْا غيرَه، أو لا تُبالوا بهم وبما يسومونَكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرَهم وشرَّهم ففيه وعدٌ ووعيدٌ، والباءُ مزيدةٌ في فاعل كفَى لتأكيد الاتصالِ الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ، وتكريرُ الفعلِ في الجملتين مع إظهار الجلالةِ في مقام الإضمارِ لاسيما في الثاني لتقوية استقلالِهما المناسبِ للاعتراض، وتأكيدِ كفايتِه عز وجل في كلَ من الولاية والنُّصرةِ والإشعارِ بعلّيتهما، فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة {مّنَ الذين هَادُواْ} قيل: هو بيانٌ لأعدائكم وما بينهما اعتراضٌ، وفيه أنه لا وجهَ لتخصيص علمِه سبحانه بطائفة من أعدائهم لاسيما في معرِض الاعتراضِ الذي حقُّه العمومُ والإطلاقُ وانتظامُ ما هو المقصودُ في المقام انتظاماً أولياً كما أشير إليه، وقيل: هو صلةٌ لنصيراً أي ينصرُكم من الذين هادوا كما في قوله تعالى: {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} وفيه ما فيه من تحجير واسعِ نُصرتِه عز وجل مع أنه لا داعيَ إلى وضع الموصولِ موضِعَ ضميرِ الأعداءِ لأن ما في حيز الصلةِ ليس بوصفٍ ملائمٍ للنصر، وقيل: هو خبرُ مبتدإٍ محذوف وقع وقوله تعالى: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} صفةٌ له أي من الذين هادوا قومٌ أو فريق يحرفون الخ، وفيه أنه يقتضي كونَ الفريقِ السابقِ بمعزل من التحريف الذي هو المصداقُ لاشترائهم في الحقيقة، فالذي يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ أنه بيانٌ للموصول الأولِ المتناولِ بحسب المفهومِ لأهل الكتابين قد وُسِّط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناءِ ببيان محلِّ التشنيعِ والتعجيبِ والمسارعةِ إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرِهم عن مخالطتهم والاهتمامِ بحملهم على الثقة بالله عز وجل، والاكتفاءِ بولايته ونُصرتِه، وأن قولَه تعالى: {يُحَرّفُونَ} وما عُطف عليه بيانٌ لاشترائهم المذكورِ وتفصيلٌ لفنون ضلالتِهم، وقد رُوعيت في النظم الكريمِ طريقةُ التفسير بعد الإبهامِ والتفصيلِ إثرَ الإجمالِ رَوْماً لزيادة تقريرٍ يقتضيه الحالُ.
والكَلِمُ اسمُ جنسٍ واحدُه كلِمةٌ كتَمْر وتمرة، وتذكيرُ ضميرِه باعتبار إفرادِه لفظاً، وجمعيةُ مواضعِه باعتبار تعدُّدِه معنى، وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كِلْمة تخفيف كَلِمة وقرئ {يحرِّفون} الكلامَ والمرادُ به هاهنا إما ما في التوراة خاصةً وإما ما هو أعمُّ منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودةِ الصادرةِ عنهم في أثناء المحاروةِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغَ لإرادة تلك الكلماتِ خاصة بأن يُجعلَ عطفُ قولِه تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الخ، على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره، فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبيِّ عليه السلام (أسمرُ رَبعةٌ) عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ، وإن أُريد به الثاني فلابد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة، أو بتعيين العقلِ أو الدين كمواضعِ غيرِه، وأياً ما كان فقولُهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقييدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ، بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكاد يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ، وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبيِّ صلى الله عليه وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظمُ جناياتِهم المعدودةِ، ومن هاهنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل.
أي يقولون في كل أمرٍ مخالفٍ لأهوائهم الفاسدةِ سواءٌ كان بمحضر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أوْ لا، بلسان المقالِ أو الحال: سمعنا وعصينا عِناداً وتحقيقاً للمخالفة وقوله تعالى: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} عطف على سمِعنا وعصينا داخلٌ تحت القولِ أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبتِه عليه السلام خاصةً وهو كلامٌ ذو وجهين محتمِلٌ للشر بأن يُحملَ على معنى اسمَعْ حالَ كونِك غيرَ مسمَعٍ كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعواً عليك بلا سمِعْتَ أو غيرَ مسمَعٍ كلاماً ترضاه، فحينئذ يجوز أن يكون نصبُه على المفعولية، وللخير بأن يُحمل على اسمَعْ منا غيرَ مسمَعٍ مكروهاً. كانوا يخاطبون به النبيَّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً به مُظْهرين له عليه السلام إرادةَ المعنى الأخيرِ وهم مضمِرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به {وراعنا} عطفٌ على اسمَعْ غيرَ مسمَعٍ، أي ويقولون في أثناء خِطابِهم له عليه السلام هذا أيضاً، يوردون كلاًّ من العظائمِ الثلاثِ في مواقعها. وهي أيضاً كلمةٌ ذاتُ وجهينِ محتملة للخير بحملها على معنى ارقُبْنا وانظُرْنا نُكلّمْك، وللشر بحملها على السبّ بالرُّعونة أي الحَمق، أو بإجرائها مجرى ما يُشبِهُها من كلمة عبرانيةٍ أو سريانية كانوا يتسابُّون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه عليه السلام بذلك ينوون الشتيمةَ والإهانةَ ويُظهرون التوقيرَ والاحترامَ، ومصيرُهم إلى مسلك النفاقِ في القولين الأخيرَين مع تصريحهم بالعصيان في الأول لما قالوا من أن جميعَ الكفرةِ كانوا يواجهونه بالكفر والعصيانِ ولا يواجهونه بالسبِّ ودُعاءِ السوءِ وقيل: كانوا يقولون الأولَ فيما بينهم، وقيل: يجوز أن لا ينطِقوا بذلك ولكنهم لمّا لم يؤمنوا به صاروا كأنهم نطَقوا به.
{لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي فتْلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السبِّ حيث وضعوا غيرَ مُسمَعٍ لا أن سمعت مكروهاً وأجْرَوا راعِنا المشابِهةَ لراعينا مُجْرى انظُرنا أو فتلاً بها وضمّاً لما يُظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يُضمِرونه من السبِّ والتحقير {وَطَعْناً فِي الدين} أي قدحاً فيه بالاستهزاءِ والسُّخريةِ، وانتصابُهما على التعليل ليقولون باعتبار تعلّقِه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلامِ عن وجهه إلى السب والطعن في الدين، أو على الحالية أي لاوِينَ طاعِنين في الدين {وَلَوْ أَنَّهُمْ} عندما سمعوا شيئاً من أوامر الله تعالى ونواهيه {قَالُواْ} بلسان المقالِ أو بلسان الحالِ مكانَ قولِهم: سمعنا وعصَينا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إنما أعيد سمِعْنا مع أنه متحقِّقٌ في كلامهم وإنما الحاجةُ إلى وضْعِ أطعنا مكانَ عصينا لا للتنبيه على عدم اعتبارِه بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعُهم سماعُ الردِّ ومُرادُهم بحكايته الإعلامُ بأن عِصيانَهم للأمر بعد سماعِه والوقوفِ عليه فلابد من إزالته وإقامةِ سماعِ القَبول مُقامَه.
{واسمع} أي لو قالوا عند مخاطبةِ النبي عليه الصلاة والسلام بدلَ قولِهم اسمَعْ غيرَ مُسمَعٍ: اسمع {وانظرنا} أي ولو قالوا ذلك بدلَ قولِهم: راعِنا ولم يدُسّوا تحت كلامِهم شراً وفساداً، أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكانَ ما قالوا من الأقوال {لَكَانَ} قولُهم ذلك {خَيْراً لَّهُمْ} مما قالوا {وَأَقْوَمُ} أي أعدلَ وأسدَّ في نفسه، وصيغةُ التفضيلِ إما على بابها واعتبارِ أصلِ الفضلِ في المفضَّلِ عليه بناءً على اعتقادهم أو بطريق التهكمِ، وإما بمعنى اسمِ الفاعلِ وإنما قُدّم في البيان حالُه بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هِممَهم مقصورةٌ على ما ينفعهم.
{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمرُّوا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدَهم عن الهدى بسبب كفرِهم بذلك {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بعد ذلك {إِلاَّ قَلِيلاً} قيل: أي إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به وهو الإيمانُ ببعض الكتُبِ والرسلِ أو إلا زماناً قليلاً وهو زمانُ الاحتضارِ فإنهم يؤمنون حين لا ينفعهم الإيمانُ، قال تعالى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وكلاهما ليس بإيمان قطعاً، وقد جُوِّز أن يراد بالقِلة العدمُ بالكلية على طريقة قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} أي إن كان الإيمانُ المعدومُ إيماناً فهم يُحدِثون شيئاً من الإيمان فهو في المعنى تعليقٌ بالمحال وأنت خبيرٌ بأن الكلَّ يأباه ما يعقُبه من الأمر بالإيمان بالقرآنِ الناطقِ بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمُحال الذي هو إيمانُهم بعدم إيمانِهم المستمرِّ، أما على الوجه الأخيرِ فظاهرٌ وأما على الأولين فلاِءَن أمرَهم بالإيمان المُنْجَزِ بجميع الكتبِ والرسلِ تكليفٌ لهم بإيمانهم ببعض الكتبِ والرسلِ وبعدم إيمانِهم إلى وقت الاحتضارِ، فالوجهُ أن يُحملَ القليلُ على مَنْ يؤمنون لإفضائه إلى وقوعِ إيمانِ مَنْ لعنه الله تعالى وخَذَله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختارِ بل بجعله ضميرَ المفعولِ في لعنهم أي ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً فإنه تعالى لم يلعنْهم فلم ينسَدَّ عليهم بابُ الإيمانِ وقد آمن بعد ذلك فريقٌ من الأحبار كعبد اللَّه بنِ سلام وكعبٍ وأضرابِهما كما سيأتي.

.تفسير الآية رقم (47):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}
{يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إما إلى من حُكِيتْ أحوالُهم وأقوالُهم خاصةً بطريق الالتفاتِ، ووصفُهم تارةً بإيتاء الكتابِ أي التوراةِ وأخرى بإيتاء نصيبٍ منها لتوفية كلَ من المقامَين حقَّه، فإن المقصودَ فيما سبق بيانُ أخذِهم الضلالةَ وإزالةُ ما أُوتوه بمقابلتها بالتحريف، وليس ما أزالوه بذلك كلَّها حتى يوصَفوا بإيتائه، بل هو بعضُها فوُصِفوا بإيتائه، وأما هاهنا فالمقصودُ تأكيدُ إيجابِ الامتثالِ بالأمر الذي يعقُبه والتحذيرُ عن مخالفته من حيث أن الإيمانَ بالمصدَّق موجِبٌ للإيمان بما يصدِّقه، والكفرَ بالثاني مقتضٍ للكفر بالأول قطعاً، ولا ريب في أن المحذورَ عندهم إنما هو لزومُ الكفرِ بالتوراة نفسِها لا ببعضها، وذلك إنما يتحقق بجعب القرآنِ مصدِّقاً لكلها وإن كان مناطُ التصديقِ بعضاً منها ضرورةَ أن مصدِّقَ البعضِ مصدَّقٌ للكل المتضمِّن له حتماً، وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبةً وهو الأظهرُ، وأياً ما كان فتفصيلُ ما فُصّل لمّا كان من مظانّ إقلاعِ كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقّب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محَجّة الهدايةِ مشفوعاً بالوعيد الشديدِ على المخالفة فقال: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} من القرآن، عبّر عنه بالموصولِ تشريفاً له بما في حيز الصلةِ وتحقيقاً لكونه من عنده عز وعلا {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} من التوراة، عبّر عنها بذلك للإيذان بكمالِ وقوفِهم على حقيقة الحالِ فإن المعيَّةَ المستدعِيةَ لدوام تلاوتِها وتكرُّر المراجعةِ إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدّي إلى العلم بكون القرآنِ مصدِّقاً لها، ومعنى تصديقِه إياها نزولُه حسبما نُعِتَ لهم فيها أو كونُه موافقاً لها في القصص والمواعيدِ والدعوةِ إلى التوحيد والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحِشِ، وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكامِ بسبب تفاوتِ الأممِ والأعصارِ فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عينُ الموافقة من حيث أن كلاًّ منها حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدور فَلَكُ التشريعِ حتى لو تأخر نزولُ المتقدِّم لنزل على وَفق المتأخِّرِ، ولو تقدم نزولُ المتأخرِ لوافق المتقدّمَ قطعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «لو كان موسى حياً لما وسِعَه إلا اتّباعي» {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيٌّ عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين، وفي تنكير الوجوهِ المفيدِ للتكثير تهويلٌ للخطب وفي إبهامها لطفٌ بالمخاطَبين وحسنُ استدعاءٍ لهم إلى الإيمان، وأصلُ الطمسِ محوُ الآثارِ وإزالةُ الأعلام، أي آمنوا من قبل أن نمحُوَ تخطيطَ صورِها ونزيلَ آثارَها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نجعلها كخُفّ البعيرِ أو كحافر الدابةِ، وقال قتادة والضحاك: نُعْميها كقوله تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} وقيل: نجعلها منابتَ الشعرِ كوجوه القِردة.
{فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فنجعلَها على هيئة أدبارِها وأقفائِها مطموسةً مثلَها، فالفاءُ للتسبيب أو نُنَكّسَها بعد الطمسِ فنردَّها إلى موضع الأقفاءِ، والأقفاءَ إلى موضعها، وقد اكتُفيَ بذكر أشدِّهما فالفاءُ للتعقيب، وقيل: المرادُ بالوجوه الوجهاءُ على أن الطمْسَ بمعنى مُطلقِ التغييرِ، أي من قبل أن نغيِّرَ أحوالَ وُجَهائِهم فنسلُبَ إقبالَهم ووجاهتَهم ونكسُوَهم صَغاراً وإدباراً، أو نردَّهم من حيث جاءوا منه، وهي أذرِعاتُ الشام، فالمرادُ بذلك إجلاءُ بني النضيرِ، ولا يخفى أنه لا يساعدُه مقامُ تشديدِ الوعيدِ وتعميمِ التهديدِ للجميع، فالوجهُ ما سبق من الوجوه، وقد اختُلف في أن الوعيدَ هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة؟ فقيل: كان بوقوعه في الدنيا.
ويؤيده ما رُوي أن عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ رضي الله تعالى عنه لما قدِم من الشام وقد سمع هذه الآيةَ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيَ أهلَه فأسلم، وقال: يا رسولَ الله ما كنت أرى أن أصِلَ إليك حتى يتحوّلَ وجهي إلى قفايَ. وفي رواية جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويدُه على وجهه وأسلم وقال ما قال. وكذا ما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه قرأ هذه الآيةَ على كعب الأحبارِ، فقال كعبٌ: يا رب آمنتُ يا ربِّ أسلمتُ مخافةَ أن يصيبَه وعيدُها، ثم اختلفوا فقيل: إنه مُنتَظَرٌ بعْدُ، ولابد من طمسٍ في اليهود ومسخٍ، وهو قولُ المبرِّد. وفيه أن انصرافَ العذابِ الموعودِ عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسبابَ نزولِه وموجباتِ حلولِه حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرّفوها وأصرُّوا على الكفر والضلالةِ وتعلَّقَ بهم خِطابُ المشافهةِ بالوعيد ثم نزولَه على من وُجد بعد مئاتٍ من السنين من أعقابهم الضالّين بإضلالهم العالَمين بما مهّدوا من قوانين الغِوايةِ بعيدٌ من حكمة الله تعالى العزيزِ الحكيم، وقيل: أو وقوعَه كان مشروطاً بعدمِ الإيمانِ وقد آمن من أحبارهم المذكورانِ وأضرابُهما فلم يقعْ، وفيه أن إسلامَ بعضِهم إن لم يكن سبباً لتأكد نزولِ العذابِ على الباقين لتشديدهم النكيرَ والعِنادَ بعد ازديادِ الحقِّ وضوحاً وقيامِ الحجةِ عليهم بشهادة أماثلِهم العدولِ فلا أقلَّ من ألا يكونَ سبباً لرفعه عنهم، وقيل: كان الوعيدُ بوقوع أحدِ الأمرين كما ينطِقُ به قوله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} فإن لم يقعِ الأمرُ الأولُ فلا نزاعَ في وقوع الثاني، كيف لا وهم ملعونون بكل لسانٍ في كل زمانٍ، وتفسيرُ اللعن بالمسخ ليس بمقرَّرٍ الْبتّةَ، وأنت خبير بأن المتبادرَ من اللعن المشبَه بلعن أصحابِ السبت هو المسخُ وليس في عطفه على الطمس والردِّ على الأدبارِ شائبةُ دلالةٍ على عدم إرادةِ المسخِ لضرورة أنه تغييرٌ مغايرٌ لما عُطف عليه، على أن المتوعَّدَ به لابد أن يكون أمراً حادثاً مترتباً على الوعيد محذوراً عندهم، ليكون مَزْجرةً عن مخالفة الأمرِ ولم يُعهَدْ أنه وقع عليهم لعنٌ بهذا الوصف، إنما الواقعُ عليهم ما تداولته الألسنةُ من اللعن المستمرِّ الذي ألِفُوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكونَ حكماً لهذا الوعيدِ أو مزجرةً للعنيد، وقيل: إنما كان الوعيدُ بوقوع ما ذُكر في الآخرة عند الحشرِ وسيقع فيها لا محالةَ أحدُ الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيعِ، وأما ما روي عن عبد اللَّه بنِ سلامٍ وكعبٍ فمبنيٌّ على الاحتياط اللائقِ بشأنهما.
والحق أن النظمَ الكريمَ ليس بنص في أحد الوجهين، بل المتبادرُ منه بحسب المقامِ هو الأولُ لأنه أدخلُ في الزجر وعليه مبنيٌّ ما روي عن الحَبْرين، لكن لمّا لم يتضِحْ وقوعُه عُلم أن المرادَ هو الثاني، والله تعالى أعلم وأياً ما كان فلعل السرَّ في تخصيصهم بهذه العقوبةِ من بين العقوباتِ مراعاةُ المشاكلةِ بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريفُ والتغييرُ والله هو العليمُ الخبير {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما أمر به كائناً ما كان أو أمرُه بإيقاع شيءٍ ما من الأشياء {مَفْعُولاً} نافذاً كائناً لا محالة فيدخُل فيه ما أُوعِدْتم به دخولاً أولياً، فالجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما سبق، ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضميرِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابةِ وتعليلِ الحُكمِ وتقويةِ ما في الاعتراض من الاستقلال.